أحمد عبد الرحمن
تمر صناعة الصواريخ المحلية في قطاع غزة بأربع
مراحل أساسية. هذه المراحل، كما يعرف الجميع، بمن فيهم أجهزة الاستخبارات
الإسرائيلية، صعبة ومعقّدة وتتطلّب خبرة ومهارة، وفي اثنتين منها جرأة كبيرة
للغاية، لا سيّما في ظل ما يشهده القطاع من عدوان صهيوني مستمر منذ ما يقارب 15
شهراً.
المرحلة
الأولى تبدأ من الحصول على المواد الخام اللازمة لصناعة هذه الصواريخ، وهي تتوزّع
بين المواد المتفجرة، سواء الكلاسيكية أو المصنّعة محلياً، والتي يتم وضعها في
الرأس المتفجّر، إضافة إلى الأسطوانات الحديدية التي يتكوّن منها بدن الصاروخ أو
تلك الخاصة بصناعة الذيل الذي يساعد على التوازن أثناء الطيران، إلى جانب بعض
الأدوات الكهربائية الخاصة بتوليد الطاقة اللازمة لإشعال المادة الدافعة التي
تساعد الصاروخ على الانطلاق إلى الأعلى.
المرحلة الثانية هي التصنيع. هذه المرحلة تحتاج
إلى مختصين وخبراء على دراية تامة بهذا العمل الخطير والحسّاس، إذ إن أي خطأ قد
يقع في أثناء العمل يمكن أن يؤدّي إلى نتائج لا تُحمد عقباها، وتاريخ المقاومة
الفلسطينية حافل بمئات الشهداء الذي سقطوا أثناء عملهم في ورش تصنيع الصواريخ أو
تلك الخاصة بصناعة العبوات الناسفة، إضافة إلى أدوات الخراطة والقص واللحام وغيرها
التي يتم الاستعانة بها لإنجاز هذه المهمة.
ثالث المراحل تتم خارج الورش والمناطق المغلقة،
وهي تتعلّق بعملية "تربيض" الصواريخ، أي وضعها داخل حاويات حديدية أو
بلاستيكية مزروعة تحت الأرض، بعد أن يتم توجيهها إلى المناطق المراد قصفها في
مرحلة معينة، إذ تحتاج هذه المرحلة إلى قوة بدنية للقائمين عليها، سواء عند القيام
بعمليات الحفر في باطن الأرض، نظراً إلى عدم توفر الإمكانيات اللازمة لذلك نتيجة
الحصار، وحرصاً على عدم افتضاح أمر العملية في ظل تحليق طيران التجسس الإسرائيلي في
سماء القطاع على مدار الساعة، سواء في ظل المعارك أو في فترات التهدئة، إذ يتم في
الغالب حفر الأرض بالمعاول اليدوية.
آخر مراحل إطلاق الصواريخ من قطاع غزة هي عملية
الإطلاق، وهي أكثر هذه المراحل دراماتيكية وخطورة، إذ إنها تتم عادة في أثناء
اشتعال المعارك بين المقاومة و"جيش" الاحتلال، وهي الفترات التي تشمل
تحليقاً مكثفاً لطيران الاستطلاع الصهيوني، والذي يملك إمكانيات تكنولوجية هائلة
وحديثة، وبإمكانه اكتشاف أي تحرّك فوق سطح الأرض، حتى لو كان بين الأشجار أو
المناطق ذات الكثافة العمرانية العالية، وهو ما يشكّل خطراً كبيراً على حياة مطلقي
الصواريخ، الذين تفادوا خلال السنوات الأخيرة الكثير من خطر هذه الطائرات بعد
اعتمادهم على الأنفاق والممرات التحت أرضية في إطلاق الصواريخ والقذائف المختلفة.
منذ بداية الحرب العدوانية على قطاع غزة، كما هو
الحال في كل المواجهات السابقة، حاول العدو الإسرائيلي أن يقضي على منظومات
الصواريخ الفلسطينية بكل ما أوتي من قوة، ولجأ إلى الكثير من الأدوات لتحقيق هذا
الهدف، كان من بينها الاغتيالات المركّزة لقادة وكوادر هذه المنظومات، سواء الذين
يشرفون على تصنيعها أو الذين يقومون بتربيضها وإطلاقها، إضافة إلى محاولة منع وصول
المواد الخام التي تساعد في صناعتها، حتى لو كانت من المواد ذات الاستخدام
المزدوج، إلى جانب استهداف ورش التصنيع التي تمكّن من الحصول على معلومات
استخبارية عنها، أو تلك التي اكتشفها بالصدفة أثناء توغّل قواته داخل مدن القطاع
ومخيماته.
وعلى الرغم من كل ما بذله الاحتلال خلال الأشهر
الماضية، وفي ظل حصار شامل ومُحكم على كل مناطق القطاع وحدوده البحرية والبرية،
فقد تمكنت المقاومة منذ بداية العدوان من إطلاق عدد كبير من صواريخها تجاه المدن
الإسرائيلية، ووصل المئات منها إلى المدن الكبيرة والمركزية، مثل عسقلان وتل أبيب
وحيفا والقدس وبئر السبع، وفي أحيان أخرى تم استهداف القواعد العسكرية الجوية لجيش
الاحتلال المنتشرة على كل جغرافيا فلسطين المحتلة، إضافة إلى حقول الغاز، وخصوصاً
تلك المقابلة لشواطئ قطاع غزة، مثل حقل غاز "مارين 2".
مع تواصل العدوان على القطاع، انخفضت نسبة
الصواريخ المطلقة تجاه بلدات العدو ومدنه بنسبة كبيرة، وهذا يرجع إلى طول فترة
الحرب التي استنفدت المخزون الأساسي من صواريخ المقاومة، إضافة إلى صعوبات لوجستية
وعملياتية فرضتها ظروف المعركة، ولا سيما بعد توسّع العملية البرية لجيش الاحتلال،
والتي أثّرت بشكل لافت في تحركات المقاتلين، وحدّت من قدرتهم على أداء مهامهم
بالشكل المطلوب.
في الأشهر الأربعة الأخيرة، حدث تغيّر مفاجئ وغير
مُتوقّع، إذ عادت وتيرة إطلاق الصواريخ إلى الارتفاع من جديد، وإن بشكل محدود،
وكانت الفوارق بين كل عملية إطلاق وأخرى تمتد من أسبوعين إلى ثلاثة، وتركّزت معظم
تلك الإطلاقات من مدينة خان يونس جنوب القطاع والمنطقة الوسطى، إضافة إلى مدينة
غزة وشمالها، وهي العمليات التي حاول العدو إيقافها من خلال أوامر الإخلاء للسكّان
المدنيين الذين يقطنون قرب مناطق الإطلاق، إذ كان يعتقد أن هذا الامر سيشكّل ضغطاً
على المقاومة لوقف إطلاق الصواريخ، أو على أقل تقدير يساعد في تحريض الناس على
المقاومة من خلال تدفيعهم ثمن ما يقوم به المقاومون.
مواضيع متعلقةولكن ما حدث خلال الأسبوعين
الأخيرين، وخصوصاً في ظل العلمية العسكرية الإسرائيلية في شمال قطاع غزة، والتي
تجاوزت شهرها الثالث حتى الآن، شكّل مفاجئة مدوّية لجيش الاحتلال وأجهزة
استخباراته، إذ إنه، وعلى مدار 12 يوماً متتالياً، يتم إطلاق قذائف صاروخية من
شمال قطاع غزة تحديداً، ومن مناطق قريبة جداً من أماكن وجود قوات العدو، وصل بعضها
إلى مشارف مدينة القدس المحتلة، على بعد نحو 70 كلم من حدود القطاع، في حين
استهدفت أخرى مدن عسقلان وأسدود والعديد من مستعمرات الغلاف.
هذا التطوّر الذي عدّته وسائل الإعلام الإسرائيلية
باللافت والمزعج للغاية، والذي دفع القليلين من الذين عادوا إلى مستعمرات الغلاف
إلى التفكير في الرحيل منها من جديد، طرح سؤالاً حول الأسباب التي أدّت إلى حدوثه
في هذا التوقيت بالذات، ووضع علامات استفهام كبيرة حول مقدرة جيش الاحتلال على حسم
الأمور في غزة بعد هذا الوقت الطويل من القتال، وبعد ما تكبدّه من خسائر غير
مسبوقة في أوساط جنوده وضبّاطه، كما يحدث في شمال القطاع الأشهر الأخيرة.
من وجهة نظرنا، نحن نعتقد أن هناك جملة من الأسباب
التي أدّت إلى حدوث هذا التغيّر اللافت، ومن أهمها ما يلي:
أولاً: ارتفاع وتيرة العدوان
كان واضحاً خلال أشهر الحرب أن المقاومة
الفلسطينية تتعامل مع فصولها وفقاً للتطورات والمستجدّات، وكانت تضع خططها بناء
على تصوّر مسبق يتم الإشراف على تنفيذه من قِبل غرف عملياتها المختلفة والمتعددة.
وكما يبدو، فإن تغوّل "جيش" الاحتلال
الذي فاق كل التوقعات، وخصوصاً في محافظة شمال القطاع، وقيامه بحرب إبادة جماعية
بحق البشر والحجر هناك، وتهجيره عشرات الآلاف من سكّان تلك المنطقة، دفع المقاومة
إلى الرد بالطريقة التي يفهمها العدو، والتي تقول أن لا أمان للمستوطنين، سواء في
مستعمرات الغلاف أو في المدن الأخرى، ما دام سكّان القطاع يتعرضون للقتل والتهجير
والإبادة، وأن رفع وتيرة العدوان سيؤدي بالضرورة إلى رفع وتيرة عمليات المقاومة .
ثانياً: استعادة المقاومة عافيتها
لا شك في أن فصائل المقاومة الفلسطينية تعرّضت
لخسائر كبيرة على صعيد الأفراد والإمكانيات، إذ إن حجم العدوان ومدته الزمنية
الطويلة قياساً بفترات سابقة أدى إلى فقدان المقاومة الكثير من إمكانياتها، سواء
نتيجة استخدامها في العمليات القتالية أو نتيجة تعرّضها للضرر والتلف نتيجة
استهدافات العدو، وبالتالي عانت المقاومة في وقت ما فترة فراغ على صعيد
الإمكانيات، لا سيّما الصاروخية منها، وهو ما جعل البعض يعتقد أنها لن تكون قادرة
على استعادة عافيتها من جديد.
المفاجئ أن العكس هو الذي حصل، فالمقاومة كما ظهر
في عدة إصدارات إعلامية أعادت تشغيل ورش التصنيع الخاصة بها، وتمكنت في ظروف بالغة
الدقّة والتعقيد من إعادة عجلة الإنتاج إلى طريقها المعهود، وإن لم يكن بالقدر
نفسه الذي كان سابقاً، إلا أنه يُعد إنجازاً هائلاً في ظل ما تعيشه من ظروف
وضغوطات وحصار.
ثالثاً: إسقاط أوراق ضغط الاحتلال
بات واضحاً للجميع أن العدو الصهيوني يقوم برفع
وتيرة عملياته العسكرية وهجماته الدموية على المدنيين الأبرياء كلما كانت هناك
مفاوضات وحوارات تهدف إلى وقف العدوان والتوصل إلى صفقة شاملة تؤدي إلى دفعه
استحقاقات لا يرغب في دفعها حتى الآن على أقل تقدير، وهو يسعى من خلال رفع وتيرة
عدوانه إلى الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات حقيقية، كما يصرّح قادته في كثير من
الأحيان، وخصوصاً في ما يتعلّق بالملفات الشائكة التي كانت خلال الشهور الماضية
سبباً في فشل المفاوضات، مثل تلك المتعلّقة بالانسحاب من كامل أراضي القطاع، وعودة
النازحين إلى بيوتهم، أو فيما يتعلق بأعداد ونوعيات الأسرى المزمع الإفراج عنهم من
الجانبين.
وفي كل المرات السابقة، كان الاحتلال يضع شروطاً
جديدة لابتزاز المقاومة، ويرفع إلى جانبها مستوى الضغط العسكري، آملاً تحقيق إنجاز
ما يساعده في تعويض جزء من إخفاقه المستمر منذ 15 شهراً.
وبالتالي، فإن المقاومة كما يبدو ترفع هي الأخرى
وتيرة عملياتها، سواء بالتصدّي الأسطوري لهجمات جيش الاحتلال، كما يجري في جباليا
وبيت لاهيا وبيت حانون، أو من خلال توسيع استهداف المدن والمستعمرات الصهيونية
بالصواريخ والقذائف، وهي في ذلك تسعى لإفشال ضغط العدو من خلال الضغط المقابل، وإن
لم يكن بالمستوى والوتيرة نفسها، نظراً إلى فارق الإمكانيات.
على كل حال، سواء كانت الأسباب السابقة التي
أوردناها هي التي تقف وراء ارتفاع وتيرة قصف المقاومة الفلسطينية للمدن
والمستعمرات بالصواريخ أم لا، فإن ما يجري من أحداث وتطورات ميدانية في قطاع غزة،
وفي ظل ما يتعرّض له هذا الشعب الصامد من مجازر ومذابح وحصار من دون أن يتحرك ضمير
هذا العالم الظالم، فقد بات من الواضح أن إخفاق جيش الاحتلال سيستمر حتى لو استمرت
هذه الحرب 100 عام، فهذا الشعب الذي صنع بصبره وثباته المعجزات، وعضّ على جرحه من
دون أن يرفع رايات الاستسلام، سيواصل القتال مهما كلّفه ذلك من تضحيات، لأنه يعلم
علم اليقين أن شذّاذ الآفاق من القتلة والمجرمين الذين احتلوا أرضه منذ عشرات
السنين لا يفهمون إلا لغة القوة، ويعلم كذلك أن هذه الأرض المباركة لا تتّسع
لشعبين، وأن كل ما يقدمه من دماء وأشلاء ستزهر غداً نصراً وعزاً وتمكيناً.