أحمد عبد الرحمن
منذ السنوات الأولى لقيام "الدولة"
العبرية على أرض فلسطين التاريخية، انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي
جاء معظم رؤسائها وأعضائها كما هو حال فرق "الجيش" المختلفة من عصابات
الأرجون والهاجاناه والإيتسيل والبالماخ وغيرها، انتهجت سياسة التدمير والخراب
كأحد أهم الأدوات التي تستخدمها ضد أعدائها من العرب والفلسطينيين، وقد سجّل
التاريخ الحديث العشرات بل المئات من العمليات الإجرامية التي لجأت فيها
"دولة" الاحتلال إلى سياسة التدمير الممنهج ضد مدن وحواضر ومنشآت ومؤسسات
الطرف الآخر، بغض النظر عن خلفيته الأيدلوجية، أو طائفته، أو عرقه ولونه.
إلا أن هذه العمليات الهمجية والبربرية قد أخذت
بعداً آخر ولا سيّما أثناء عدوان تموز 2006 على لبنان، حيث اعتمد "جيش"
العدو على ما سُمّي حينذاك بعقيدة الضاحية، والتي وضع رئيس أركان "جيش"
الاحتلال السابق "غابي آيزنكوت" مبادئها الأساسية، حيث اعتمدت على
مبدأين أساسيين، هما تفعيل القوة النارية الإسرائيلية بصورة غير متكافئة مع قوة
نيران الطرف الآخر، والتدمير الكامل الكلّي للبنى التحتية والمدن والقرى التي توجد
فيها قوى المقاومة.
بعد عامين من تلك الحرب، أكد "آيزنكوت"
والذي كان يشغل حينها منصب مسؤول القيادة الشمالية في "جيش" الاحتلال أن
"إسرائيل" ستواصل استخدام هذه الاستراتيجية في النزاعات المقبلة، وأن ما
حدث في ضاحية بيروت الجنوبية سيحدث في كل قرية تطلق منها النيران على
"إسرائيل"، مضيفاً أننا سنستخدم قوة غير متناسبة ونتسبّب في أضرار ودمار
كبير جداً، لأنه من وجهة نظرنا هذه ليست قرى مدنية، بل قواعد عسكرية.
في المواجهات المتعدّدة التي وقعت بعد ذلك، والتي
تركّزت بمعظمها في قطاع غزة الصغير والمحاصر منذ العام 2007، والتي أخذت أشكالاً
وعناوين وأهدافاً مختلفة، ظهرت بما لا يدع مجالاً للشك تغيّرات جوهرية على حجم
العمليات العسكرية الإسرائيلية، وهذه التغيّرات كانت تتعلّق بشكل خاص بحجم الضرر
الذي تُحدثه تلك العمليات والهجمات على مستوى البنى التحتية في قطاع غزة، حيث وصلت
في أواخر أيام عدوان 2012 إلى درجة لم تكن معتادة لدى أهالي القطاع ولدى المقاومة
أيضاً، إذ لجأ العدو حينها إلى استهداف الأبراج السكنية ذات الطوابق المرتفعة
والمتعددة، والتي كان بعضها يؤوي نحو ثلاثمئة فرد وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك.
في عدوان 2014 ارتفعت وتيرة تلك الاستهدافات ضد
المباني والأبراج السكنية بشكل ملحوظ، مُضافاً إليها بعض المدارس والجامعات
والمؤسسات، والتي كان الاحتلال يدّعي كما هي عادته أنها تؤوي عناصر
"إرهابية"، وأنها تُستخدم من قِبل المقاومة لأغراض عسكرية، وهو في ذلك
يبرّر لآلة حربه استخدام كل ما بين يديها من وسائل، وكلّ ما في جعبتها من أدوات من
أجل التضييق على حياة المدنيين، وتحويل حياتهم إلى جحيم.
هذا الحال تكرّر في المعارك التي تلت العدوان الذي
استمر 51 يوماً، والتي كانت أبرزها معركة "سيف القدس" في أيّار/مايو
2021، إذ رفع "جيش" الاحتلال من وتيرة عمليات التدمير ضد المنازل
والبنايات السكنية، وأصبح مشهد الأبراج المرتفعة وهي تنهار بفعل صواريخ الاحتلال
ذات الوزن الثقيل مشهداً مألوفاً لدى الغزيين، ولدى كل الذين كانوا يتابعون يوميات
الحرب عبر شاشات التلفاز المختلفة.
غير أنّ كل ما جرى خلال الحروب السابقة صغيرها
وكبيرها شأن، وما جرى ويجرى منذ أكثر من ثلاثة عشر شهراً من عمر العدوان الهمجي
على قطاع غزة شأن آخر، وهو الأمر الذي ينسحب بصورة مشابهة على ما يجري في لبنان
منذ نحو الشهرين، إذ إن حجم الدمار والخراب الذي يستهدف بدرجة أولى مساكن
المواطنين الآمنين، إلى جانب البنى التحتية بمختلف مسميّاتها، والمؤسسات والمشافي
والوزارات والمدارس والجامعات لم يسبق له مثيل، وقد فاق بحسب الكثير من المؤسسات
الدولية والأمم المتحدة كلّ الأعراف والقوانين، وتجاوز بمراحل ما حدث في حروب
كبيرة شهدها العالم خلال السنوات الماضية، بل إن حجم الدمار والخراب الهائل في
قطاع غزة تحديداً قد حوّل هذا القطاع الصغير والفقير، والذي لا تتجاوز مساحته 365
كلم، إلى منطقة غير صالحة للسكن بكل ما للكلمة من معنى.
بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن
تكلفة إعادة بناء ما دمّره الاحتلال في قطاع غزة تتجاوز الـ 30 مليار دولار، وربما
تصل إلى 40 ملياراً في حال استمرت الحرب لعدة أشهر مقبلة، وبحسب البرنامج أيضاً
فإن هذه المهمة لم يسبق للمجتمع الدولي أن تعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية،
وإن عمليات البناء ستحتاج قرابة ثمانين عاماً في حال كانت وتيرة الإعمار شبيهة
بتلك التي جرت إبّان الحروب السابقة ولا سيما بعد عدوان العام 2014.
في عمليات التدمير الواسعة التي تجري في قطاع غزة
كما هو الحال في لبنان يستخدم "جيش" الاحتلال مروحة واسعة من الأدوات،
تأتي في المقدّمة منها القنابل والصواريخ الملقاة من الجو، والتي يزن بعضها ألفي
رطل، وتستطيع الواحدة منها تدمير مربّع سكنيّ كامل وليس بيتاً واحداً فقط، ومن ثم
بدأ قبل ثلاثة أشهر تقريباً نتيجة معاناته كما يبدو من نقص على صعيد تلك القنابل
باستخدام البراميل المتفجرة، والتي تفتقد للدقة في إصابة الأهداف، إلا أنها ذات
فعّالية تدميرية أكبر وأوسع، إلى جانب ذلك بات "جيش" الاحتلال يستخدم
الروبوتات المفخخة والتي تحوي كمية كبيرة من المواد المتفجرة، بالإضافة إلى تلغيمه
لبعض العربات المدرّعة القديمة مثل ناقلات البوما والـ M113 وتفجيرها في بعض المناطق،
يُضاف إلى كل ما سبق استخدام جرافاته الضخمة من طراز "D9" لهدم البيوت والمنشآت
المختلفة، وهذه الجرافات باستطاعتها هدم بناية مرتفعة في عدة ضربات لما تملكه من
قوة هائلة، مع التذكير أيضاً بلجوئه إلى عمليات إحراق المنازل، والتي تُعتبر لدى
كثير من المواطنين أسوأ بكثير من عمليات الهدم والتدمير.
كلّ ما سبق يدفعنا إلى طرح السؤال الآتي: هل
التدمير هو هدف بحد ذاته؟ أم أنه وسيلة وأداة لتحقيق الردع؟ مع أهمية التنويه هنا
إلى أن كل يجري من عمليات تدمير وتخريب لم تكن في معظمها تحمل طابعاً عملياتياً،
ولا تسعى لتحقيق أهداف عسكرية ملموسة، وهي أي هذه العمليات مستمرة وتأخذ منحى
تصاعدياً على الرغم من هدوء الكثير من محاور القتال في قطاع غزة.
في حقيقة الأمر يمكن الاعتقاد بأن ما يجرى يخدم
الفرضيتين السابقتين، إذ إنه من الجانب الأول فإن عقيدة التدمير والخراب التي
تستوطن عقول "اليهود" موجودة منذ زمن طويل، وهي منصوص عليها في كتبهم
المحرّفة والمزيّفة، حيث يمكن لنا أن نجد نصوصاً واضحة وصريحة تدعو إلى الدمار
والخراب، منها على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في سفر "التثنية" والذي
يقول: "فضرباً تَضربُ سكان تلك المدينة بحدّ السيف، وتحرمها بكل ما فيها من
بهائمها بحدّ السيف، واجمع كلّ أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكلّ
أمتعتها كاملة للربّ إلهك".
هذا التحريض على القتل والتدمير والخراب عبّر عنه
أيضاً وزير المالية الصهيوني "بتسلئيل سموتريتش"، والذي دعا في بداية
العدوان إلى تدمير قطاع غزة بالكامل، معتبراً أن ذلك أمر ضروري لأمن
"إسرائيل". من جهته طالب عضو الكنيست السابق "موشيه فيغلين"
باستخدام السلاح النووي ضد قطاع غزة، وهو الأمر الذي أعادت المطالبة به عضوة أخرى
في الكنيست عن حزب الليكود هي "تالي غوتليف"، والتي دعت إلى ضرب غزة
بصواريخ "أريحا 2 " القادرة على حمل رؤوس نووية.
أما فيما يتعلّق بالجانب الثاني وهو السعي
لاستعادة قدرة الردع المفقودة، والتي تعرّضت صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من
العام الماضي لضربة قاتلة، فإنه بات من الواضح أن العمل من أجل تحقيق هذا الهدف
بات من أولويات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي تحاول منذ فشلها في مجابهة
الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، والحروب التي بدأت منذ تموز/يوليو 2006 مع
لبنان، مروراً بالأعوام 2008-2012-2014-2021 وصولاً إلى معركة طوفان الأقصى مع
قطاع غزة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على صعيد قدرة الردع التي كانت تتفاخر بها على الدوام،
والتي وضعتها في سنوات خلت في مصاف القوى العسكرية الكبرى على مستوى المنطقة
والعالم.
في العام 1923 من القرن الماضي، نشر" زئيف
جابوتنسكي" قائد عصابات "الإيتسل"، وقائد ما يُعرف "بالتيار
التصحيحي" في الحركة الصهيونية، نظريته الشهيرة "الجدار الحديدي"،
والتي اعتمدت على ثلاثة مفاهيم أساسية، كان على رأسها مفهوم الردع، إلى جانب
الإنذار والحسم، حيث تمّت ترجمة هذه النظرية بشكل عملي وفعّال على أرض الواقع بعد
نشأة الكيان الصهيوني في العام 1948، إذ تمّ تقسيم مفهوم "الردع" إلى
جزءين، الأول يتعلق بردع الدول العربية والإسلامية، ومنعها من شنّ حرب على الكيان
الصهيوني، من خلال المحافظة على تفوّق عسكري واضح ونوعي لصالح العدو، والجزء
الثاني يتعلق بردع جماعات وتنظيمات المقاومة في فلسطين والمنطقة، والتي تعمل
بأنماط وطرق تختلف شكلاً وموضوعاً عن عمل الدول، وهؤلاء يتمّ التعامل معهم وفق
نظرية هجومية تعتمد بشكل أساسي على إلحاق خسائر مادية وبشرية كبيرة في صفوفهم،
بهدف كسر روحهم المعنوية، والحد قدر الإمكان من إمكانياتهم التسليحية، والضغط على
حاضنتهم الشعبية، ومن ثم الحصول على فترة هدوء طويلة نسبياً معهم على قاعدة
"عمليات قتالية وتهدئة طويلة".
وبالتالي عندما وجدت "الدولة" العبرية
نفسها أمام "أزمة وجودية" كما سمّاها رئيس وزراء العدو نتيجة سقوط أو
تأكّل قدرة الردع التي كانت تتمتع بها، فقد اختارت أن تفعّل كل أدوات التدمير
والخراب والقتل التي بحوزتها على أمل استعادة ولو جزء من تلك القدرة، أو بالحد
الأدنى المحافظة على ما تبقّى منها كي لا تصبح "الدولة" عرضة لهجمات قاتلة
ومتتالية كما حدث في صباح السابع من أكتوبر المجيد.
على كل حال وحتى كتابة سطور هذا المقال، فإن
"إسرائيل" لم تفلح على الرغم من كل ما تملكه من قوة عسكرية، وعلى الرغم
من كل ما تحصل عليه من دعم وإمدادات تحجب عين الشمس، وعلى الرغم من مساندة كل قوى
الشر في العالم لها، في تحقيق ما تسعى إليه من استعادة قدرة الردع المفقودة، وأن
الحلقة الدموية من الجنون والقتل والإجرام التي تدور بداخلها منذ أكثر من ثلاثة
عشر شهراً لم تؤدِّ حتى الآن إلى الظفر بما تسعى إليه، بل إنها فقدت المزيد من
قدرة ردعها أمام ضربات المقاومة التي أذاقتها الويلات في كل محاور القتال، وكشفت
بما لا يدع مجالاً للشك عن هشاشة فرقها العسكرية، وألويتها المقاتلة، وكتائبها
النخبوية، التي كانت تهدّد بها كل المنطقة.
صحيح أن الثمن الذي دفعته المقاومة في غزة ولبنان
كان باهظاً، وصحيح أن الشعبين الفلسطيني واللبناني عانيا وما زالا من أوضاع معيشية
قاسية، وصحيح أن السواد الأعظم من الأنظمة العربية والإسلامية وشعوبها قد أدارت
الظهر لهما، إلا أنهما ما زالا مؤمنين بعدالة القضية التي يقاتلان من أجلها،
ويملكان كامل الثقة بحتمية النصر والتمكين، والذي من دون أدنى شك سيتحّقق بعزّ
عزيز أو بذل ذليل، وما النصر إلا من عند الله.