بثينة شعبان
عاملان أساسيان ساهما في استمرار حرب الإبادة على
الفلسطينيين ومن بعدهم اللبنانيين، بالإضافة طبعاً إلى العقلية المجرمة للكيان
الصهيوني ومخطّطه الشيطاني بقتل كلّ ما على الأرض، وهما شراكة الولايات المتحدة
ومن ورائها الدول الغربية في العدوان العسكري والسياسي والإعلامي على الشعبين
العربيين، وتعطيل كلّ المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن، ومنعه من اتخاذ قرار
لإيقاف حرب الإبادة ولنصرة الشعب المقاوم ضد احتلال صهيوني شرس وبغيض.
والعامل الثاني هو إرهاب القوة الغاشمة للولايات
المتحدة وأوروبا الذي سبّب هذا الوضع الدموي المجرم، حيث تكاتفت أقوى الدول
الغربية عسكرياً مع خطط مجرم الحرب نتنياهو والذي أصاب بقية العالم بالذهول والخوف
والعجز، ناهيك عن الافتقار إلى آليات عمل دولية راسخة وواضحة لمواجهة مثل هذا
العدوان الهمجي على إنسانية الناس في كلّ مكان.
وعلّ قرار محكمة العدل الدولية، وإن جاء متأخراً
بالدعوة لإلقاء القبض على مجرم الحرب بنيامين نتنياهو ووزير حرب الإبادة يوآف
غالانت، باعتبارهما مسؤولين عن مختلف أنواع المجازر الوحشية التي ارتكبت بحقّ
الشعب الفلسطيني، هو أول خطوة على طريق إحقاق الحقّ والقصاص لدماء مئات الآلاف من
الشهداء والنازحين والمهجّرين، والذين تعرّضت إنسانيتهم لأشدّ أنواع المهانة على
يد إرهاب صهيوني بغيض لا يقيم للكرامة الإنسانية وزناً.
ولعلّ أقبح ردّ على قرار المحكمة هو تعليق
المتحدّثة باسم البيت الابيض على قرار المحكمة بأنّ الولايات المتحدة تتشاور مع
الحلفاء، ومن ضمنهم "إسرائيل"، لاتخاذ الخطوات المقبلة. وجاء في العنوان
"الولايات المتحدة تفكّر بفرض عقوبات على محكمة العدل الدولية"، وهي
والكيان الصهيوني ليسا عضوين في المحكمة، وهذا بحدّ ذاته يشي بالكثير عن طبيعة
النظامين والجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبانها ضدّ شعوب العالم.
أما جو بايدن فقد قال: "إصدار المحكمة
الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد القادة الإسرائيليين أمر شائن". الأمر
الشائن هو مشاركة الصهيوني بايدن بالمجازر التي ارتكبها قادة هذا الكيان وحمايته
لهم من كلّ عقاب، وإرسال مئات المليارات من أحدث أسلحة الدمار الوحشية لتستخدم ضد
المدنيين العزّل، والحقّ يقال إن اسم الصهيوني بايدن كان يجب أن يكون مع اسميهما
لأنّ مسؤوليته لا تقلّ عن مسؤوليتهما في التمكّن من شنّ واستمرار أبشع حرب إبادة
في التاريخ الحديث بحقّ شعب مسالم يناضل لإنهاء الاحتلال ونيل حريته والعيش بسلام
على أرضه وفي دولته المستقلة.
لقد عبّر زعماء عدد من الدول الغربية عن استعدادهم لإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت إذا ما وجدا على أراضيهم، وهذا أضعف الإيمان بحق مجرمَين أمرا بقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء بدم بارد، وتدمير المشافي والمدارس والجامعات والكنائس والجوامع وقتل الأطباء والعلماء والإعلاميين، وتجريف ذاكرة وطن سعياً منهم لإلغاء هوية وحضارة شعب فلسطين العربي الأصيل، واهمين أنهم يمكن أن يؤسسوا، وهم الغرباء القادمون من أوروبا الشرقية، لوجودهم الهجين في منطقة هم غرباء عنها على أنقاض حضارة عربية إسلامية ومسيحية متجذّرة في الأرض وفي وعي أبنائها الذين يحملونها أمانة في أعناقهم ويورثونها للأجيال القادمة لكي تعود أشجار الزيتون لتزهر بأمن وسلام، وتفوح رائحة الزعتر الفلسطيني من المكان.
المستوطنون الأوروبيون الصهاينة ومن لفّ لفيفهم لا
يعرفون تاريخ بلاد الشام، وأنها كانت عصيّة على أعتى جبابرة المحتلّين والمستعمرين
الأوروبيين الذين لم يتمكّنوا من فرض أيّ مفردة من مفرداتهم على هذه البلاد طال
زمن احتلالهم أم قصر.
وعلّه سرّ مفضوح أن المحكمة الجنائية الدولية قد
تأخّرت في أخذ قرارها من أيار/مايو الماضي حتى تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، لأن
اللوبي الصهيوني بأمواله الحرام وبإرهابه كان منخرطاً في محاولة شراء الذمم من
جهة، وتشويه صورة كريم خان رئيس المحكمة من جهة ثانية.
ولكن صدور القرار وإن يكن غير مبرِم يُري أن جهود اللوبي الصهيوني قد فشلت، وهذا مهم جداً أن يعلم الصهاينة أن هناك أناساً لا تُباع ولا تُشترى، وأنّ في الحياة ما هو أهمّ من المال والسلطة لدى هؤلاء الذين يمتلكون ضميراً وحسّاً إنسانياً صافياً. فبالإضافة إلى إبادة البشر والحجر في كلّ مكان يطأونه، فإن الصهاينة يعملون على إبادة الأخلاق والقيم أيضاً من خلال تعويم شراء الضمائر والعملاء والخونة، وكمّ الأفواه؛ إذ إنهم قتلوا في فلسطين إعلاميّين أكثر مما قُتل في الحربين العالميتين، في محاولة مستميتة منهم لدفن الحقيقة وعدم وصولها إلى قلوب وعقول البشر، فيما امتنع الإعلام الغربي المسيّر عن تغطية أكبر مجازر وحشية يرتكبها الصهاينة المحتلون في فلسطين، واكتفوا برواية الأكاذيب الصهيونية عن "حق الدفاع عن النفس".
وفي هذا الصدد كان الإعلام الغربي والنخب الغربية
متواطئة معهم؛ فالإسرائيليون يقتلون الإعلاميين والإعلام الغربي يقتل الحقيقة،
ولكن الحقيقة لا تُقتل فهي كالبذرة الطيبة قد تكمن في التربة إلى حين، ولكنها ما
تلبث أن تشقّ طريقها إلى الشمس وتبقى هناك خالدة بينما تجرف الظلمة كل من وقف في
وجهها إلى العدم.
المسؤولون الغربيون يمارسون نوعاً من اللغو عن
اليوم التالي في غزّة واليوم التالي في فلسطين ولبنان، ولكنهم ربما لا يفكّرون
باليوم التالي لأنفسهم حين تنتهي مدتهم في هذه المناصب التي لم يستحقّوها أصلاً،
ماذا سيفكّر الآخرون بهم، وماذا سوف يحدّثون أبناءهم وأحفادهم، وكيف سيتمّ تدوين
أسمائهم حين تكشف السجلات والقصص عن حجم التواطؤ المخزي الذي مارسوه ضدّ قضية شعب
عادلة. كيف سينظرون إلى أنفسهم في المرآة وكيف سينظر الناس والأجيال القادمة
وخاصّة تلك وارثة الحقوق والأوطان؟
لقد تواطأ الغرب في قتل ستيفن بيكو في جنوب
أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، وفي سَجن أنزه وأعظم الرجال، نيلسون مانديلا،
الذي وضعته الولايات المتحدة على رأس قائمة الإرهاب، ولكن ستيفن بيكو ونيلسون
مانديلا اليوم هما أسطورتان من أساطير الضمائر الحرّة النبيلة المدافِعة عن الحقّ
والحرية، من يعرف اسماً من أسماء القتلة أو السجّانين وأعضاء الكونغرس الذين
صوّتوا لوضعهما على رأس قائمة الإرهاب؟ يا للعجب من أناس لا يتخذون من التاريخ
عبرة وعظة.
ها هو أوّل المتحدّثين، وشهد شاهد من أهله، جوزيب
بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي على مدى السنوات
الخمس الماضية، والذي سيخلي مقعده وتنتهي مهمّتة بعد أقلّ من أسبوعين يقول:
"إن ما يجري في غزّة مروّع، وإنّ ما تقوم به إسرائيل هي حرب ضدّ الأطفال، حيث
إن من بين القتلى الـ 44 ألفاً في غزّة هناك 70% من النساء والأطفال، وأعمار هؤلاء
غالباً هي دون التاسعة، ومع ذلك توجد صعوبة جمّة مع 27 دولة أوروبية ليس لإدانة
إسرائيل على ممارساتها الوحشية في غزّة التي ندّدت بها الأمم المتحدة والمحكمة
الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بل فقط للدعوة إلى وقف إطلاق النار".
ومن بين الرافضين لأيّ موقف معادٍ لـ
"إسرائيل" هناك بداية ألمانيا وتليها النمسا وهنغاريا وتشيكيا ودول
البلطيق وهولندا، وخلُص بوريل إلى القول في جملة تعكس إحباطه: لم يعد هناك كلام إذ
استنفدت كلّ الكلام لشرح ما يجري في الشرق الأوسط.
هؤلاء الذين يرفضون إدانة حرب الإبادة الإسرائيلية
الشنيعة يفهمون تماماً ما يجرى في فلسطين ولبنان، وهم ليسوا بحاجة إلى شروحات
وتوضيحات، ولكنهم منضوون تحت عباءة إرهاب القوة الذي تمارسه الولايات المتحدة
الصهيونية عليهم، فلا يتجرّؤون على انتقاد رئيس العصابات الصهيونية خوفاً على
مواقعهم أو مصالحهم، وبهذا فهم يضعون مصالحهم الشخصية فوق سمعة وتاريخ بلدانهم،
بينما المقاومون البواسل يضعون أرواحهم على أكفّهم ويقضون في سبيل هدفٍ نبيل وغاية
سامية متحلّين بأخلاق الفرسان الأشاوس.
هذا زمن أصبح بعض المسؤولين أشبه بدمى متحركة لا
وجدان ولا ضمير ولا كرامة لها، خاضعين للمال الفاسد الحرام والابتزاز الصهيوني
المتحكّم بحكومات الدول الغربية قاطبة، ويحلمون وأسيادهم بالقضاء على المؤمنين
بالله والأرض والتاريخ والمستقبل. كلّما زادوا في غيّهم وفي نصرة الباطل على الحقّ
كلّما اقتربوا من النهاية الحتمية للباطل والإرهاب والاحتلال والظلم.
ولو تمكّنت آلتهم الوحشية اليوم من قتل وتهجير
مئات الآلاف من الأطفال والنساء، فقد حصل هذا لشعبنا مرّات عبر التاريخ، ولكنه لم
يدع جذوة المقاومة ولم يفقد إيمانه بحقّه ووطنه وانتصاره في نهاية المطاف، ولذلك
تمكّن عبر التاريخ من دحر المعتدين والمحتلين والمستوطنين وبقي هو شامخاً يمزج دمه
بترابه ولا يغادر ولا ييأس.
حين يعكف الكُتّاب على كتابة تاريخ هذين العامين من تاريخ منطقتنا والعالم سيخجل كلّ أوروبي وكلّ أميركي من الإرث الوحشي المخزي الذي تركه له حكّام هذه الفترة في أوروبا وأميركا المتصهينة، والذين ساروا في الضلالة لأسبابهم الواهية، بينما أصحاب الحقّ قاوموا وصبروا ورابطوا وطبّقوا قول الله تعالى: "فلا تخشوهم واخشون إن كنتم مؤمنين"، وهذا وعد الله حقاً عليه أن أصحاب الحقّ هم الفائزون وأ