كتب / ميشيل شحادة
يشعر العديد من أنصار المقاومة بمرارة الإحباط وغصة الحسرة بسبب الصمت المخيم والدور الضعيف الذي تلعبه الجماهير العربية في هذا الوقت العصيب. كيف لا يشعرون بذلك، والجماهير التي كانوا يعوّلون عليها لم تنهض ولم تُظهر الدعم الذي يرتقي إلى مستوى التضحيات الجسيمة والآلام العميقة في غزة؟ تلك التضحيات التي يئن تحت وطأتها الشعب الفلسطيني الصامد، في مواجهة حملة إبادة جماعية وتطهير عرقي يشنها الكيان الصهيوني المحتل بلا رحمة ولا هوادة. هذه الحملة الشرسة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً على مدى القرنين الماضيين. إنها لحظات مأساوية تختبر فيها الإنسانية بأكملها، فما بالك بالجماهير العربية؟
هذا الشعور بالإحباط مفهوم ومبرر، ولكنه لا يجب أن يقودنا إلى فقدان الأمل نهائياً في نهوض الجماهير العربية، أو إلى الاعتقاد بأن هذه الجماهير قد انسحبت من مجرى التاريخ إلى الأبد. التفكير بهذه الطريقة يفتقر إلى البعد التاريخي والعلمي، ويتجاهل الدروس المستقاة من تجارب الشعوب السابقة. فحركة التطور الاجتماعي، رغم بطئها، تمتلك القدرة على إيقاظ الوعي واستنهاض القدرات الشعبية الكامنة، التي عند انفجارها تمضي بالشعوب نحو دروب النصر والازدهار.
يقع عبء تحرير فلسطين على عاتق الفلسطينيين في المقام الأول، لكن الدعم العربي والإسلامي ليس مجرد خيار، بل هو واجب قومي وديني وأخلاقي. هذا الدعم يلعب دوراً حاسمًا في تحقيق هذا الهدف، حيث تُعتبر الجماهير والشعوب العربية والإسلامية شركاء حقيقيين في القتال، والتضامن، وتوفير الإسناد والعمق الاستراتيجي. كما يشمل أيضًا النضال اليومي في المقاطعة، والتوعية، والضغط السياسي. والدليل على هذا الالتزام ما يفعله محور المقاومة اليوم، لكن ذلك غير كافٍ. فتحرير فلسطين يتطلب انخراط الشعوب العربية في المعركة. فلا يمكن للفلسطينيين وحدهم أن يحرروا فلسطين والعالم العربي المُهيمَن عليه والمُستَباح من الغرب.
تاريخياً، أظهرت الشعوب العربية تضامناً قوياً مع القضية الفلسطينية، بالاستناد إلى الروابط الثقافية والدينية والتاريخية، والإحساس الفطري واليقيني العميق بوحدة المصير مع فلسطين. هذه الروابط لم تضعف ولا تزال حاضرة بقوة. ورغم أن دور الشعوب العربية، خصوصًا في مصر والأردن، لم يرتقِ إلى مستوى التحديات المصيرية التي تواجهها فلسطين في معركة “طوفان الأقصى”، إلا أن إمكانيات نهوض هذه الشعوب لتصبح قوة حاسمة في النضال لتحرير فلسطين لا تزال راسخة بقوة. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب نفسًا طويلًا والتزامًا مستداماً، وتبني استراتيجيات متعددة الأبعاد، لمواجهة التعقيدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بالقضية الفلسطينية.
السؤال عن سبب عدم رد فعل قوي من الشعوب العربية على معركة “طوفان الأقصى” الأسطورية هو مسألة حساسة ومعقدة، تتطلب فهمًا معمقاَ للأسباب الكامنة وراء هذا الرضوخ. الشعوب العربية تعيش تحت قمع واستهداف مركب، يأتي من الداخل بأيدٍ تابعة للأجنبي، ومن الخارج مباشرة. هناك عدة جوانب يمكن النظر إليها لفهم هذا الوضع:
التحديات السياسية الداخلية: تواجه العديد من الدول العربية أزمات سياسية واقتصادية وقيادية عميقة. تركيز الحكومات في هذه الدول غالبًا ما ينصب على حماية سلطتها، سواء من شعوبها أو من التأثيرات الخارجية. لتحقيق ذلك، تعمل هذه الحكومات على إلهاء الجماهير وإشغالها لتجنب أي توترات داخلية قد تهدد بقاءها. طبيعة هذه الأنظمة القمعية تجعلها تستثمر طاقاتها في السيطرة على الشعوب وإلهائها بالفتن الطائفية والعرقية عن المشاركة الفعّالة في القضايا المصيرية، كالقضية الفلسطينية.
ـ القمع السياسي: الحكومات العربية تمنع بشدة حرية التعبير والاحتجاجات، وتعاقب من يحاول ممارستها بقسوة وعنف. وتتعرض الأفراد والجماعات التي تحاول تنظيم الدعم أو الاحتجاجات للاعتقال والسجن والنفي، بل وحتى القتل، مما ينشر حالة من الخوف والذعر من تنظيم تحركات جماهيرية واسعة ومؤثرة.
ـ التطبيع مع إسرائيل: قامت بعض الحكومات العربية بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، مبررة ذلك بالمصالح الاقتصادية أو الاستراتيجية المشتركة. رافقت هذه التحركات حملات إعلامية مكثفة لغسل الأدمغة تهدف إلى إقناع الشعوب بقبول فكرة التطبيع، بزعم تحسين مستوى المعيشة، وتحقيق السلام، ووقف الحروب. هذا التطبيع المشين لم يبرر غياب الدعم الرسمي لفلسطين فحسب، بل خلق شعوراً بالاشمئزاز وإخماد جذوة الحماس عند الشعوب المشاركة في الدعم.
ـ الانقسامات الداخلية في فلسطين: الانقسامات السياسية خصوصاً بين حركتي فتح وحماس، وتطبيع السلطة الفلسطينية وسياسة التنسيق الأمني المعيب مع العدو الصهيوني ومحاربتها للمقاومة، ولدت شعوراً بالإحباط واليأس، واللامبالاة بالقضية الفلسطينية.
ـ الإعلام وتوجيه الرأي العام: تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسماً كأداة توجيهية وأيديولوجية في تشكيل والسيطرة على الرأي العام.
في العديد من الدول العربية، يظل الإعلام خاضعاً إما لسيطرة الدولة أو لنفوذ خارجي. بحيث تسعى هذه الوسائل إلى بث مواد معادية سامة، تهدف إلى تشويه الوعي القومي وتضليل الجماهير. وذلك عبر تحويل انتباههم إلى قضايا مفتعلة، وتقديم الأحداث بطريقة مشوهة لا تمت إلى الحقيقة بصلة. فقد أصبح التجهيل والتحريف والكذب سلاحاً يستخدمه الغرب بأسلوب علمي ممنهج للتخريب والسيطرة. تُستخدم في هذه المهمة القذرة نخب سياسية وثقافية عربية مأجورة ومؤدلجة لتحقيق هذه الأهداف.
ـ التركيز على القضايا القطرية المحلية: تتركز أولويات غالبية أبناء جماهيرنا العربية على القضايا المحلية، مثل البطالة، والفقر، والفساد، ولقمة العيش، والتعصب القطري بدلاً عن الانتماء القومي. بحيث تستنفد هذه القضايا المصطنعة معظم طاقتهم، وتفاقم من أزماتهم، وتهمّش القضية الفلسطينية في حياتهم اليومية.
ـ الإحباط واليأس: يشعر الجمهور العربي بالإحباط واليأس بسبب طول أمد الصراع العربي الصهيوني دون تحقيق نتائج ملموسة، وذلك بسبب الأداء القيادي الضعيف والفساد المستشري، إضافة إلى الفشل الاقتصادي الذريع. كما أن تكرار الهزائم وخيبات الأمل على الصعيدين السياسي والعسكري أدى إلى تراكم الشعور بالعجز، وإلى الاعتقاد بأن المشاركة السياسية لن تُحدث أي تغيير حقيقي، فتترسخ سمات الأنانية واللامبالاة الاجتماعية.
ـ الضغوط الدولية والإقليمية: تشكل الضغوط الدولية والإقليمية عقبة رئيسية أمام الدعم العلني لفلسطين. هذه الضغوط تُمارس من قبل قوى عالمية وإقليمية، مثل الولايات المتحدة وبعض دول الخليج العربي، التي تفرض رؤيتها لـ “الاستقرار” بما يتناسب مع مصالحها الضيقة، متجاهلة بذلك القضايا الوطنية المصيرية مثل تحرير فلسطين. بحيث يؤدي إلى تقليص الدعم الحقيقي للنضال الفلسطيني، والاتجاه نحو المصالحة والمساومة والحلول الاستسلامية مع الأعداء، متسترة تحت غطاء شعارات واهية مثل الاستقرار والمصالح الاقتصادية المشتركة والسلام الإقليمي.
ـ الانقسام الطائفي والإثني: الانقسامات الطائفية والإثنية تُعقد المشهد الداخلي في بعض الدول العربية، مما يعوق التوجه نحو القضايا القومية، وعلى رأسها قضية فلسطين. تستخدم القوى الحاكمة هذه الانقسامات كأداة لتشتيت الانتباه عن القضايا الأساسية، مما يُبقي الشعوب غارقة في خلافات مفتعلة ووهمية، ويحول دون توحيد الجهود لدعم النضال الفلسطيني بقوة.
ـ قلة التنظيم الفعّال: على الرغم من وجود أحزاب سياسية ومنظمات مدنية ونقابات مهنية تسعى لدعم القضية الفلسطينية، إلا أنها تفتقر إلى الموارد الكافية والتنظيم الفعّال، مما يُعيق قدرتها على قيادة حملات كبيرة ومؤثرة. في غياب التنظيم المحكم والاستراتيجيات الواضحة، يصبح من المستحيل تعبئة الجماهير ودفعها نحو تحركات قوية ومستدامة لدعم القضايا المركزية.
ـ اتفاقيات أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية: أدت اتفاقيات أوسلو الشائنة في التسعينيات إلى تكوين السلطة الفلسطينية المؤقتة، التي غيرت الديناميات الفلسطينية والعربية. هذه الاتفاقيات أخمدت شعلة الحماس الشعبي لدعم القضية الفلسطينية، وزودت الأنظمة العربية مبررًا للانخراط في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في النهاية، التطور الاجتماعي يُولد دائماً حركات محلية جديدة، مُلهِمة ومُلهَمة. فعندما انحرفت منظمة التحرير، نهضت “حماس” لتكون الفصيل المقاوم؛ وعندما كان لبنان يستغيث للمقاومة، وُلد حزب الله ليحمل لواء الكرامة؛ وفي العراق، تشكل الحشد والمقاومة العراقية دفاعًا عن الأرض والهوية؛ وفي اليمن، برز أنصار الله ليكونوا نبراس المقاومة. هذه الحركات ليست مجرد تنظيمات، بل هي تعبير حيّ عن روح المقاومة، عن شعور عميق بأن الحرية هي حق أصيل، وأن تحرير فلسطين ليس مجرد قضية قومية، بل هو النبض الذي يوحد الأمة بأكملها. إنها قناعة بأن كسر القيود الصهيونية يعني كسر قيود الاستعمار والتقسيم التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو.
إن إدراك هذا الارتباط الوثيق بين النضال المحلي والقومي، مع التحولات في المشهد السياسي العالمي والإقليمي، وزيادة الوعي بالعدالة الإنسانية، يضعنا أمام مسؤولية تاريخية. علينا أن ندرك أن دعم النضال الفلسطيني ليس خيارًا بل ضرورة، هو صرخة حق في وجه الظلم، وهو طريقنا الوحيد نحو الحرية الشاملة.
نعم، الوضع معقد، والطريق طويل وشاق، ويتطلب نهجًا شاملاً يجمع بين العمل السياسي والتوعوي، ولكن هل نستسلم؟ هل نسمح لليأس بأن يسلبنا حقوقنا؟ الاعتقاد بأن الجماهير العربية انسحبت من ساحة النضال هو وهم يخدم الأعداء، هو استسلام يرفضه كل من يمتلك ضميراً حياً. إن الشعوب العربية لم تفقد شجاعتها ولم تنسحب من التاريخ. هي قد تتحرك ببطء، لكنها تحمل في داخلها نار المقاومة، وعزيمة الأبطال، وإرادة الحياة الكريمة. الشعوب هي التي تصنع التاريخ، بدماء أبنائها، بصلابة مواقفها، وبإيمانها الراسخ بأن الحرية والكرامة ليستا رفاهية، بل حقاً لا يقبل المساومة.
إن نداء الحرية يناديكم، فلتكن فلسطين في القلب والعقل، ولتكن المقاومة خيارنا، ولتكن الكرامة غايتنا. هذه اللحظة هي لحظة التحدي، فلنكن على قدر المسؤولية، ولنكتب معاً صفحة جديدة من صفحات المجد والحرية.