لا يخفى على المراقب أن الكثير من الأدبيات الأميركية والأوروبية باتت تتحدّث بصورة متزايدة عن تراجع الغرب، بل اتخذ بعضها عناوين مثيرة من قبيل موت الغرب، ونهاية الغرب، وانتحار الغرب، وسقوط الغرب وما شابه ذلك.
سبق للفيلسوف والمفكر الألماني شبنجلر في أربعينيات القرن الماضي أن نشر كتابه الشهير "انحطاط الغرب"، ولكن ذلك كان بمثابة منبّه عام مما عساه يعتري هذا الغرب من خطر السقوط الذي يعرض لكل الحضارات، والأمم أكثر من كونه توصيفًا لواقع فعلي للغرب الأوروبي والأميركي الذي كان في صدارة عنفوانه تقريبًا.
ومع ما أصاب الغرب من إنهاك بسبب حربَيه الطاحنتين، فقد حافظ على حيويته الفكرية والسياسية وقوته العسكرية، خاصة أن مخزون الطاقة التي يمتلكها الغرب الأوروبي قد انتقل إلى الضفة الشمالية الأطلسية من دون منازع جدّي (أميركا).
الغرب في مواجهة "الآخرين"
بيدَ أن ما يكتب اليوم وينشر عن سقوطه، يتجاوز نطاق الإشارات والتنبيهات التي أثارها شبنجلر من قبل، بقدر ما يتوقف عند المعطيات والتوازنات، فقد بات الغرب الأوروبي والأطلسي يواجه اليوم منافسة جيدة من قوى كبرى، ليس بالضرورة لأنه فقد عنفوانه وقدرته على الابتكار، ولكن لصعود قوى أخرى تسعى لكسر الاحتكار العلمي والتقني وانتزاعه من بين يديه، قوى باتت تنافسه على صعيد التسلح والجيوش في ظل عالم يتّجه نحو مزيد من التنوع والتعدد، من الصينيين والروس والهنود إلى البرازيليين والأتراك والإيرانيين وغيرهم، وذلك في إطار معادلة سبق أن أسماها فريد زكريا "الغرب والآخرون" The West and the Rest.
ولا نعلم إن كان من سوء حظ العرب والمسلمين أو من حسنه أن توالت عليهم موجات العدوانية الغربية واحدة تلو الأخرى، كلّما دفعوا منها حلقة جاءتهم أخرى، فإذا بموعودات التحرير التي دوّنها رجال الأنوار تستحيل في أرضهم إلى احتلال مقيت، وإذا بالديمقراطية الموعودة تستحيل وطأة ثقيلة من الاستبداد السياسي المدعومة أميركيًا وغربيًا.
ولعل الوجهين الأكثر كثافة اليوم لتلك الهوة السحيقة التي تفصل بين دعاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير وبين تجسّداتها العملية في منطقتنا العربية هما مشروع الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما يلقاه من أشكال الدعم الخفي والمعلن من القوى الغربية، وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة الأميركية، ثم ما رآه العراقيون وشعوب المنطقة من مظاهر الترويع والعنف خلال الاحتلال الأميركي للعراق وقبله لأفغانستان.
في وقت كانت أصوات بعض المنظّرين الغربيين والأميركان تتعالى مؤكدة انتصار القيم الثقافية الغربية واكتساحها الضارب لكل مناحي المعمورة، كانت مظاهر العنف في العراق تزداد شراسة على شراستها، وتزداد معها عوامل النقمة والشكوك بين مختلف شعوب العالم في مدى جدية وصدقية القيم الثقافية والسياسية التي تبشر بها العواصم الغربية، حتى لكأن أول مهمات الآلة العسكرية الأميركية التشكيك في عالمية القيم الليبرالية الأميركية وتفكيك دعاواها التحرريّة.
الانكشاف الأخلاقي
إن الاختبار الأكبر لمدى جدية أي قيم سياسية وثقافية يتعلق بمدى التزام الحاملين لها والمبشّرين بها في سلوكهم وسياساتهم في فترات العُسرة والحروب، وفي مقدمة ذلك قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد شهد العالم كيف أدارت بعض الديمقراطيات الغربية آلتها الحربية ضد العراق بأساليب الخداع ومخاتلة مواطنيها ومخادعة الرأي العام، وكيف تحولت أم "الديمقراطيات الليبرالية" إلى آلة ضخمة من الرقابة الأمنية والأكاذيب المفضوحة التي تسوّغ شنّ الحرب والعدوان وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي كانت الآلة الإعلامية والسياسية الأميركية تغلّف أهدافها التوسعية والاستحواذية في العراق عبر تلفيق التهم وفبركة الأدلّة أو الادّعاء بجلب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت الإجراءات الأمنية والرقابية المقيدة للحريات وخصوصيات الأفراد تزداد توسعًا في الداخل الأميركي نفسه خلال حقبة المحافظين الجدد. أي أن هذا النموذج السياسي والثقافي الذي يراد تصديره للعالم والذي شُنت الحروب باسمه لـم يستطع أن يصمد حتى في موطنه الأصلي فضلًا عن صموده خارج حدوده القومية.
صحيح أن هذه الهوّة السحيقة بين القيم السياسية والثقافية الغربية، التي تبرز على نحو ما، في الشعارات وحرم الجامعات وفي بطون الكتب، مقارنة بما نراه واقعًا على صعيد الممارسات على الأرض، ليست أمرًا جديدًا أو طارئًا. فقد ولدت الحداثة الغربية منذ بواكيرها مسكونة بهذا التوتر المستمر بين مطالب التحرر وآليات الهيمنة والإخضاع في الداخل وبصورة أوضح في الخارج.
ولسنا نضيف جديدًا في تبيان هذه الهوة السحيقة التي تفصل بين الجانبين، فقد سبق للفيلسوف الألماني هابرماس أن فصل القول فيما أسماه بالهوة السحيقة التي باتت تفصل بين مبشّرات المشروع الثقافي الأنواري في التقدم والتحرير والعقلنة، وبين مشروع التحديث الغربي على نحو ما هو قائم على أرض الواقع وما لازمه ويلازمه من مظاهر التشوه والانحراف، وهو ما أسماه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور التفاوت بين طوباويات الحداثة ومحصول الحداثة.